Feeds:
المقالات
التعليقات

Archive for the ‘أميركي’ Category

5-رسالة من طالب يستعد لدراسة الطب


كان رد نوت على رسالتي:

“آسف لأني تأخرت في الإجابة على رسالتك. يبدو ذلك الكتاب الذي تؤلفه كتاباً مثيراً للاهتمام. كنت صغيراً جداً عندما ألقيت القنبلة لذا لا أعتقد أني سأكون عوناً كبيراً لك. ينبغي عليك حقاً أن تسأل أخي وأختي، وكلاهما أكبرَ مني سناً. أختي هي السَّيدة هاريسون سي. كونرز[1]،  4918 شارع نورث ميرديان ، انديانابوليس، انديانا. ذلك أيضاً عنوان بيتي الآن. أعتقد أنها ستسر لمساعدتك. لا أحد يعرف عن مكان أخي فرانك. لقد اختفى تماماً منذ عامين بعد جنازة والدي، ولم يسمع عنه أحد منذ ذلك الحين. كلُّ ما نعرفه هو أنه قد يكون ميت الآن.

“كنت أبلغ من العمر ست سنوات فقط عندما رميت القنبلة على هيروشيما، لذا أي شيء أتذكره حول ذلك اليوم ساعدني أناس آخرون على تذكره.

“أتذكر أني كنت ألعب على سجادة غرفة الجلوس خارج باب مكتب والدي في إليوم، نيويورك. كان الباب مفتوحاً واستطعت رؤية والدي. كان يرتدي بيجاما وبرنس حمام. كان يدخن سيجاراً. كان يلعب بخيط معقود. ذلك اليوم، كان والدي يمكث في البيت من المختبر في بيجامته طوال الوقت. بقي في البيت كلما أراد ذلك.

“أمضى والدي كما تعرف على الأرجح حياته المهنية كاملة عملياً يعمل في مختبر أبحاث شركة الصهر والسباكة العامة في إليوم. عندما جاء مشروع مانهاتن، مشروع القنبلة، ما كان والدي ليغادر إليوم للعمل عليه. قال إنه لن يعمل عليه على الإطلاق إلا إذا سمحوا له بالعمل حيث يريد أن يعمل. عنى ذلك أن يكون في البيت أغلب الأحيان. المكان الوحيد الذي أحب الذهاب إليه، خارج إليوم، كان كوخنا في كيب كود. كانت كيب كود[2] المكان الذي توفي فيه. لقد توفي ليلة عيد الميلاد. تعرف ذلك أيضاً على الأرجح.

“بأية حال، كنت ألعب على السَّجادة خارج مكتبه يوم القنبلة. تخبرني أختي أنجيلا أني اعتدت اللعب بألعاب على شكل شاحنات صغيرة لساعات مصدرا أصوات محرك هكذا “بورتون، بورتون، بورتون” طوال الوقت. لذا أظن أني كنت أصدر هذه الأصوات “بورتون بورتون بورتون “يوم القنبلة، وكان والدي في مكتبه يلعب بخيط معقود.
“شاءت الصدف أن أعرف مصدر الخيط الذي كان يلعب به. ربما يمكنك استعمال المعلومة في مكان ما من كتابك. أخذ والدي الخيط الذي كان ملفوفاً حول مخطوط رواية أرسلها إليه رجل في السِّجن. كانت الرواية حول نهاية العالم في العام 2000 واسم الكتاب كان 2000 ميلادية. إنها تروي عن علماء مجانين صنعوا قنبلة مريعة مسحت العالم برمته. كان هناك عربدة جنسية ضخمة عندما عرف الجميع أن العالم سينتهي، ثم ظهر يسوع المسيح نفسه قبل عشر ثواني من انفجار القنبلة. كان الكاتب يدعى مارفن شارب هولديرنس[3]، وأخبر والدي في خطاب تعريفي أنه كان في السجن لأنه قتل أخيه. أرسل المخطوط لوالدي لأنه لم يتمكن من تبين أي نوع من المتفجرات عليه أن يضع في القنبلة. اعتقد أن والدي قد يقدم له الاقتراحات.

“لا أقصد إخبارك أني قرأت الكتاب عندما كنت في السادسة من عمري. امتلكناه في المنزل لسنوات. حاز عليه أخي فرانك على خلفية المقاطع القذرة فيه. احتفظ فرانك به مخفياً فيما دعاه “خزنته الجدارية” في غرفة نومه. فعلياً لم تكن خزنة لكن مجرد مدخنة موقد قديم لها غطاء من التنك. فرانك وأنا لابد أننا قرأنا الجزء الخاص بالعربدة آلاف المرات في طفولتنا. امتلكناه لسنوات ثم وجدته أختي انجيلا. قرأته وقالت إنه لم يكن شيئاً سوى قطعة من الفحش العفن القذر. أحرقته ومعه الخيط. كانت أماً لي و لفرانك لأن أمنا الحقيقية ماتت عندما ولدتْ.

“لم يقرأ والدي الكتاب قط، أنا واثق تماماً. لا أعتقد أنه قرأ رواية أو حتى قصة قصيرة في حياته برمتها أو على الأقل ليس منذ أن كان ولداً صغيراً. لم يقرأ بريده أو مجلات أو صحف أيضاً. أفترض أنه قرأ الكثير من الصُّحف التقنية لكن لأخبرك الحقيقة لا أستطيع أن أتذكر والدي يقرأ أي شيء.

“كما أقول كل ما أراده من المخطوط كان الخيط. هذا كان ديدنه. لم يستطع أحد التنبؤ بما سوف يثير اهتمامه لاحقاً. في يوم القنبلة كان خيط.

“هل سبق لك أن قرأت الخطاب الذي ألقاه لدى تلقيه جائزة نوبل؟ هذا الخطاب كاملاً: “سيداتي سادتي. أقف أمامكم الآن لأني لم أتوقف مطلقاً عن التسكع مثل طفل يبلغ من العمر ثمان سنوات في صباح ربيعي في طريقه إلى المدرسة. أي شيء يمكن أن يحملني على التوقف لأنظر وأتعجب وأحياناً أتعلم. أنا رجل سعيد للغاية. شكراً لكم”.

“بأية حال نظر والدي إلى حلقة الخيط إلى حين من ثم بدأت أصابعه تلعب بها. صنعت أصابعه شكل الخيط المدعو “مهد القطة”. لا أعرف أين تعلم والدي كيف يفعل ذلك. من والده ربما. كان والده خياطاً كما تعلم لذا لا بد أنه كان يوجد خيط وسلك طوال الوقت عندما كان والدي صبياً.

” كان صنع مهد القطة ذاك أقرب شيء على الإطلاق لما هو متعارف عليه على أنه لعبة رأيت والدي يلعب به. لم يكن بحاجة على الإطلاق لحيل وألعاب وقواعد صممها أناس آخرون. في دفتر اعتادت أختي انجيلا أن تحتفظ به، كان هناك قصاصة من مجلة التايم حيث سأل شخص ما والدي عن الألعاب التي لعبها للاسترخاء وقال: “لماذا يجب علي أن أتكلف العناء مع ألعاب جاهزة عندما يوجد الكثير من الأشياء الحقيقية تجري؟”

“لا بد أنه استغرب عندما صنع مهد قطة من الخيط، وربما ذكره بطفولته. خرج على حين غرة من مكتبه وفعل شيئا لم يسبق له أن فعله. حاول أن يلعب معي. هو ليس فقط لم يلعب معي من قبل، بل بالكاد تحدث إلي.

“لكنه ركع على ركبتيه على السجادة قربي وأراني أسنانه، ولوح بالخيط المتشابك في وجهي. سأل: “هل ترى؟ ترى؟ ترى؟ مهد القطة. هل ترى مهد القطة؟ هل ترى أين تنام القطقوطة اللطيفة؟ مياو. مياو”.

” بدت مسامه كبيرة بحجم فوهات على سطح القمر. كانت أذناه ومنخراه محشوين بالشَّعر. دخان السيجار جعل له رائحة مثل فم الجحيم. لذا عن قرب كان والدي أبشع شيء رأيته على الإطلاق. حلمت به طوال الوقت.

“من ثم غنى. قائلا: “نامي يا قطتي، في قمة الشجرة، عندما تهب الريح، سوف يهتز المهد. إذا انكسر الغصن، سوف يسقط المهد. سوف يسقط المهد، والقطة، وكل شيء”.

“انفجرت بالبكاء. قفزت وخرجت من المنزل بأسرع ما يمكن.

“ينبغي علي أن أتوقف هنا. لقد تجاوزت الساعة الثانية صباحا. رفيقتي في الحجرة استيقظت للتو واشتكت من الضوضاء التي تصدرها الآلة الكاتبة”.


[1] Harrison C. Conners

[2] Cape Cod.

[3] Marvin Sharpe Holderness

Read Full Post »

لأني لم أستطع التَّوقف للموت-

بلطفٍ توقَّف هو من أجلي –

العربة حملتنا نحن الاثنان فقط-

والخلود.

سرنا الهوينى – فهو لم يعرف العجلة

وتوجَّب عليَّ أن أنحي جانباً

عملي وراحتي أيضاً،

من أجل كياسته-

مررنا بالمدرسة، حيث جاهد الأطفال

وقت الفرصة- في الحلبة-

مررنا بحقول شاخصة من الحبوب –

مررنا بالشَّمس الآفلة-

أو بالأحرى- هي التي مرت بنا-

النَّدى استلَّ رعشةً وقشعريرة-

لأنه من قماش بالغ الرقة، ردائي-

ولفاعي- فقط من التُّول-

توقّفنا أمام منزل بدا

انتفاخاً في الأرض-

كان السَّطح مرئياً بالكاد-

الإفريز- في الأرض-

ذلك الحين- وقد مرت قرون- إلا أنه

يبدو أقصر من اليوم

الذي أدركت فيه لأول مرة أن هامات الخيول

كانت متجهة نحو الأبدية-

Read Full Post »

Félix Vallotton, The Lie

الكذبة-ريموند كارفر

قالت زوجتي: “إنها كذبة، كيف يمكنك تصديق أمر كهذا؟ إنها تشعر بالغيرة، هذا كل ما في الأمر”. ورفعت رأسها وظلَّت تحدِّق نحوي. لم تكن قد خلعت قبعتها ومعطفها بعد. كان وجهها متوهِّجاً من التهمة الموجهة لها. “أنت تصدقني، ألست كذلك؟ بالتأكيد لا تصدق ذلك؟”.

هززت كتفي. ثم قلت: “لماذا ينبغي عليها أن تكذب؟ من أين نمي إليها هذا؟ ما الذي يمكنها أن تكسبه من خلال الكذب؟” لم أكن مرتاحاً. وقفت هناك منتعلاً خفيَّ أفتح وأغلق يدي، أشعر بالسُّخف بعض الشيء وبالاستعراض على الرغم من الظُّروف. أنا لست مؤهلاً للعب دور المحقق. أتمنى الآن لو أنه لم يبلغ قط مسمعي، لو أن كل شيء أمكن له أن يكون كما في السابق. قلت: “يفترض بها أن تكون صديقة، صديقة لكلينا”.

“إنها امرأة ساقطة، هذا ماهي عليه! أنت لا تظن أن صديقاً مهما كانت طبيعة علاقتك به، حتى لو أحد المعارف بالصدفة، قد يروي شيئاً مثل ذلك، يا لها من كذبة صريحة، صحيح؟ أنت ببساطة لا يمكنك تصديقها “. هزت رأسها منزعجة من حماقتي. ثم فكَّت قبعتها، وخلعت قفازيها، ووضعت كل شيء على الطاولة. خلعت معطفها ورمته فوق ظهر كرسي.

قلت: “لم أعد أعلم ماذا أصدق، أريد أن أصدقك”.

قالت: “إذن افعل! صدقني-هذا كل ما أطلبه. أنا أخبرك الحقيقة. ما كنت لأكذب حول أمر مثل ذاك. قل إنه ليس بصحيح عزيزي، قل إنك لا تصدقها”.

أحبها. أردت أن آخذها بين ذراعي، أحضنها، أخبرها أني صدقتها. لكن الكذبة، إذا كانت كذبة، حالت فيما بيننا. انتقلت نحو النافذة.

قالت “لابد أن تصدقني، أنت تعرف أن هذا تصرف أحمق، أنت تعرف أني أخبرك الحقيقة”.

وقفت إلى النافذة ونظرت نحو حركة المرور البطيئة في الأسفل. لو رفعت عيني، لتمكنت من رؤية صورة زوجتي المنعكسة على النافذة. قلت لنفسي: أنا رجل متسامح. يمكنني تجاوز هذا.  بدأت أفكر بزوجتي، بحياتنا معاً، بالحقيقة مقابل الخيال، الصِّدق مقابل البهتان، الوهم والواقع. فكرت بذلك الفيلم Blow-up لذي كنا قد شاهدناه مؤخراً. تذكرت السيرة الذاتية لليو تولستوي الموضوعة على الطربيزة، الأشياء التي يقولها عن الحقيقة، الإثارة التي خلقها في روسيا القديمة. ثم تذكرت صديقاً قديماً من وقت طويل مضى، صديق كان عندي من أيام دراستي في المدرسة الثانوية.  صديق لا يمكن أن يروي الحقيقة على الإطلاق، كاذب مدمن وفادح، ومع ذلك شخص دمث وحسن الطوية وصديق حقيقي لمدة سنتين أو ثلاث سنوات خلال فترة صعبة من حياتي. كنت مبتهجاً لاكتشافي لهذا الكاذب المدمن من ماضيَّ، هذا السابق للاعتماد على مساعدته في الأزمة الحالية في زواجنا السعيد، حتى الآن. هذا الشخص، هذا الكاذب المفعم بالحيوية، يمكن أن تنطبق عليه بالفعل نظرية زوجتي عن وجود مثل هؤلاء الناس في العالم. شعرت بالسعادة مجدداً. التفت لأتحدث، عرفت ماذا أردت أن أقول: نعم، بالفعل، يمكن أن تكون حقيقة، إنها حقيقة-يمكن للناس أن يكذبوا، دون حسيب ولا رقيب، ربما دون وعي، بشكل مرضي أحياناً، دون تفكير بالنتائج. بالتأكيد شاهدي كان شخصاً من هذا النوع. لكن تماماً في تلك اللحظة جلست زوجتي على الأريكة، غطت وجهها بيديها وقالت: “إنها حقيقة، ليسامحني الله. كل ما قالته لك صحيح. كانت كذبة عندما قلت إني لم أعرف شيئاً عنها”.

قلت: “هل هذا صحيح؟” جلست على أحد الكراسي قرب النافذة.

أومأت وأبقت يديها على وجهها.

قلت: “لماذا أنكرتِ إذن؟ لم يكذب أحدنا على الآخر قط، ألم نخبر الحقيقة دوماً لبعضنا البعض”.

قالت: “كنت آسفة”. نظرت نحوي وهزَّت رأسها، “كنت أشعر بالخزي. أنت لا تعرف كم شعرت بالخزي، لم أرغب أن تصدق”.

قلت: “أظن أني أفهم”.

 خلعت حذاءها وأسندت ظهرها على الأريكة. ثم جلست وخلعت كنزتها من رأسها. سوَّت شعرها. أخذت سيجارة عن الصِّينية. أشعلت لها السيجارة وكنت للحظة مذهولاً من منظر أصابعها النحيلة الشَّاحبة وأظافرها المطلية بإتقان. كان كما لو أني كنت أراهم بطريقة جديدة وكاشفة.

أخذت نفساً من السيجارة وقالت بعد دقيقة: “وكيف كان يومك اليوم، حلو، أتحدث بالعموم، هذا كل شيء. أنت تعلم ماذا أعني”. ضبطت السِّيجارة بين شفتيها ووقفت لدقيقة لتخلع تنورتها. “هناك”، قالت.

أجبتها: “كان بين بين، كان هناك شرطي هنا في الأصيل معه أمر بالتفتيش، صدقي أو لا تصدقي، يبحث عن شخص كان يسكن هنا في الممر. ومدير الشقة نفسه اتصل ليقول إن المياه قد تنقطع لمدة نصف ساعة، بين الثالثة والثالثة والنصف، أثناء قيامهم بالإصلاحات.  في الواقع، فكري في ذلك، كان عليهم قطع المياه تماماً أثناء تواجد الشرطي هنا “.

قالت: “هل كان كذلك؟” وضعت يديها على وركيها ومطت جذعها. ثم أغمضت عينيها، تثاءبت ونفضت شعرها الطويل.

قلت: “وقرأت قسطاً لا بأس به من كتاب تولستوي اليوم”. “رائع”. بدأت تأكل المكسرات، وترميها واحدة تلو الأخرى بيدها اليمنى في فمها الفاغر بينما لا تزال تحمل السيجارة بين أصابع يدها اليسرى. توقفت من وقت إلى آخر عن الأكل لوقت يكفي كي تمسح شفتيها بظاهر يدها وتأخذ نفساً من السيجارة. كانت قد خلعت ملابسها الداخلية الآن. طوت ساقيها تحتها واستقرت على الأريكة قالت: “كيف هو؟”

قلت: “امتلك بعض الأفكار المثيرة للاهتمام، كان شخصية بالفعل”. استشعرت وخزًا في أصابعي وكان الدم قد بدأ يدور بسرعة أكبر. لكني شعرت بأني ضعيف أيضاً.

قالت: “تعال هنا يا فلاحي[1] الصَّغير”.

قلت بصوت خافت: “أريد الحقيقة” وكنت أزحف على يدي وركبتي الآن. نعومة السَّجادة المخملية النابضة أثارتني. زحفت ببطء نحو الأريكة ووضعت ذقني على إحدى المخدَّات. مررت يدها في شعري. كانت لا تزال تبتسم. لمعت حبات الملح على شفتيها الممتلئتين. لكن وأنا أشاهد، امتلأت عيناها بنظرة حزن متعذر تفسيرها ولو أنها واصلت الابتسام ومداعبة شعري.

قالت: “صغيري ﭘاشا، تعال هنا. هل صدقت حقاً تلك السيدة الكريهة، تلك الكذبة القذرة، هنا، ضع رأسك على نهدي. هذا كل شيء. الآن أغمض عينيك. هناك. كيف يمكنك تصديق مثل هذا الأمر؟ لقد خاب أملي فيك. حقاً، أنت تعرفني بشكل أفضل من ذلك. الكذب مجرد تسلية بالنسبة لبعض الناس”.


[1] Muzhik: فلاح روسي.

يمكن الاستماع إلى القصة بصوتي هنا

Read Full Post »

Sardines-Michael Goldberg

لماذا أنا لست برسَّام-فرانك أوهارا

أنا لست رساماً، أنا شاعر.

لماذا؟ أظن أني أفضِّل لو أكون

رساماً، لكني لست كذلك. حسناً،

على سبيل المثال، مايك غولدبرغ

يبدأ برسم لوحة. أمرُّ به.

يقول: “اجلس واحتسِ شراباً”.

أشرب، نشرب. أرفع

بصري. “أنت ترسم أسماك سردين فيها”.

“نعم، تطلب الأمر وجود شيء ما هناك”.

“أوه”. أذهب وتمضي الأيام

وأمر به ثانية. اللوحة

لم تُنه بعد، وأذهب، والأيام

تمر. أزوره. اللوحة

أنهيت. “أين أسماك السَّردين”؟

كل ما بقي مجرد

أحرف، ” كانت أكثر من اللازم”، يقول مايك.

لكن أنا؟ أفكر ذات يوم

بلون: البرتقالي. أكتب سطراً

عن البرتقالي. وسرعان

ما تمتلئ صفحة كاملة بالكلمات، وليس السُّطور.

ثم صفحة أخرى. لابد أن يكون هناك

المزيد، ليس من البرتقالي، من

الكلمات، عن كم مريع هو اللون البرتقالي

والحياة. وتمضي الأيام.  حتى أنه مكتوب

نثراً، أنا شاعر حقيقي. قصيدتي

منتهية ولم أشر

إلى اللون البرتقالي بعد. إنها اثنتا عشرة قصيدة، أطلق عليها اسم

برتقال. وذات يوم في معرض

أرى لوحة مايك، تحمل اسم سمك السردين.

Read Full Post »

James Baldwin poses at his home in Saint-Paul-de-Vence, France in 1979.

كومة الحجارة- جيمس بالدوين

ترجمتها عن الإنكليزية أماني لازار

مقابل منزلهم، على الجهة الأخرى من الشَّارع، كان يوجد كومة من الحجارة في قطعة أرض فارغة بين منزلين. كان وجود كتلة بارزة من الصَّخر الطبيعي مستغرباً في هذا المكان. شخص ما أخبرهم ذات يوم، ربما العمَّة فلورنس، بأمر الصَّخرة وعن عدم إمكانية إبعادها، فمن دونها كانت عربات التّرام تحت الأرض لتتطاير وتقضي في طريقها على حياة النَّاس جميعاً. كان هذا تفسيراً مثيراً للاهتمام إلى حدٍّ بعيد لتعرُّضه لثمَّة لغز طبيعي يتعلَّق بكل من سطح ومركز الأرض على حدٍّ سواء، وعلاوة على ذلك خلع على كومة الصُّخور أهميَّة غامضة لدرجة أن روي شعر أن من حقِّه، إن لم نقل من واجبه، أن يلعب هناك.

كان أولاد آخرون يتواجدون هناك كلَّ أصيل، بعد العودة من المدرسة ويومي السَّبت والأحد، ويتشاجرون على كومة الحجارة. هاجموا بعضهم بعضاً وتشبَّثوا بالقمم، ثابتي الأقدام وخطرين وطائشين، يختفون أحياناً في ظل الجانب الآخر في فوضى من الغبار والصُّراخ وبأقدام سائبة ومنقلبة. قالت والدتهم وهي تراقب ذات يوم من سلَّم النَّجاة: “أعجبُ من أنهم لا يقتلون أنفسهم. أيها الأطفال ابتعدوا عن هناك، هل تسمعونني؟” ومع أنها قالت “أطفال” إلا أنها كانت تنظر إلى روي حيث جلس إلى جانب جون على سلَّم النجاة. ثمّ واصلت: “يعلم الله أني لا أريدكم أن تعودوا إلى البيت نازفين في كل يوم يرسله الرَّب”. انزاح روي متبرماً وواصل التَّحديق نحو الشَّارع كما لو أنه يستطيع بهذا أن يحظى بجناحين. لم ينبس جون ببنت شفة، لم يتوجَّه إليه أحد بالكلام حقاً: كان فزعاً من الصَّخرة ومن الأولاد الذين يلعبون هناك.

جلس كل من جون وروي على سلَّم النجاة صباح كل يوم سبت وراقبا الشَّارع المحظور عليهما في الأسفل. جلست والدتهما أحياناً في الغرفة خلفهما، تخيط أو تلبس أختهما الصُّغرى أو تطعم الرَّضيع بول. هبطت الشَّمس عليهما وعلى سلَّم النَّجاة بفتور خيِّر وعالٍ، تحتهما رجال ونساء وأولاد وفتيات، جميعهم أشرار ومتسكعون، بين الحين والآخر مرَّ أحد أعضاء الكنيسة ورآهما فلوَّح لهما. ثم كانوا مُهابين لحظة لوحوا له باحتشام. راقبوا القدِّيس سواء كان رجلاً أو امرأة حتى اختفائه عن مرمى النظر. جعلهم عبور أحد المفتدين يحتسبون لخباثة الشَّارع مهما كان خاوياً، لخبثهما الكامن بالجلوس مكانهم وجعلهم يفكرون بوالدهما الذي يعود إلى البيت باكراً أيام السَّبت وقد يظهر قريباً جداً عند هذه الزاوية ويدخل الردهة المظلمة تحتهما.

لكن ريثما يأتي ويضع حداً لحريتهما، جلسا يراقبان ويتحرَّقان لهفة فوق الشَّارع. عند طرف الشَّارع الأقرب إلى منزلهما كان الجسر الذي عبر نهر هارلم وأفضى إلى مدينة تدعى برونكس حيث تقيم العمَّة فلورنس. برغم ذلك، عندما شاهداها قادمة لم تكن آتية من جهة الجسر، بل من الطرف المقابل للشارع. هذا فسرته تفسيراً ضعيفاً في اعتقادهما بالقول إنها استقلَّت المترو غير راغبة بالسَّير، وأنها علاوة على ذلك لم تقطن في ذلك الجزء من برونكس. لعلمهما أن برونكس تقع في الجهة الأخرى من النهر لم يصدِّقا هذه القصَّة قط، لكن بتبنيهما نحوها موقف والدهما، افترضا أنها غادرت للتو مكاناً آثماً لم تجرؤ على تسميته، صالة سينمائية على سبيل المثال.

سبح الأولاد في النَّهر في فصل الصَّيف، يغطسون عن السِّقالة الخشبية، أو يخوضون فيه انطلاقاً من ركام النفايات الصَّلبة. ذات يوم غرق فتى في النهر، كان يدعى ريتشارد. لم تعرف أمه بمكانه، حتى أنها جاءت إلى منزلهم لتسأل إذا كان هناك. ثمَّ في المساء، عند السَّاعة السَّادسة، سمعوا من الشَّارع صوت صراخ امرأة تولول وهرعوا إلى النوافذ وتطلعوا منها. في الشَّارع جاءت المرأة، أم ريتشارد تصرخ، وجهها مرفوع نحو السَّماء والدُّموع تجري عليه. سارت امرأة إلى جانبها تحاول أن تهدئ من روعها وأن تسندها. مشى خلفهما رجل، والد ريتشارد، وجسد ريتشارد بين ذراعيه.

كان هناك رجلا شرطة أبيضا البشرة يسيران في الميزاب، لم يبدُ عليهما أنهما يعرفان ما الذي ينبغي عمله. كان كلاً من والد ريتشارد وريتشارد مبتلَّين، وجسد ريتشارد يفترش ذراعي والده مثل طفل رضيع. ملأ صراخ المرأة الشَّارع، أبطأت السَّيارات وحدَّق ركابها، فتح الناس نوافذهم ونظروا منها وخرجوا مندفعين من الأبواب ليقفوا في الميزاب، يراقبون. ثم اختفى الموكب الصَّغير داخل المنزل الواقع إلى جانب كومة الحجارة. ثمَّ صرخت والدتهم اليزابيث: “يا رب، يا رب، يا رب!”، وأغلقت النَّافذة بعنف.

ذات يوم سبت، قبل ساعة من موعد مجيء والده إلى البيت، أصيب روي على الصَّخرة بجرح وحُمل صارخاً إلى الطابق العلوي. كان هو وجون جالسين على سلَّم النَّجاة وذهبت والدتهما إلى المطبخ لتحتسي الشَّاي مع الأخت مكَّندلس. شيئاً فشيئاً استبد الملل بروي وجلس إلى جانب جون في صمت متضجِّر، وجون بدأ يرسم في دفتره المدرسي إعلاناً صحفياً أبرز قاطرة كهربائية جديدة. مرَّ بعض أصدقاء روي تحت سلَّم النجاة ونادوا عليه. بدأ روي يتضجَّر، يصيح نحوهم عبر القضبان. ثم حلَّ صمت. رفع جون بصره. وقف روي يتطلع إليه.

قال: “أنا ذاهب إلى الأسفل”.

“من الأفضل أن تبقى حيث أنتَ يا فتى. أنت تعرف أن ماما لا تريدك أن تنزل”.

“سأعود. سوف لن تعرف حتى بأني ذهبت إلا إذا أخبرتها”.

“سوف لن أخبرها. ما الذي يمنعها من المجيء إلى هنا والنَّظر من النافذة؟”

قال روي وقد شرع بدخول المنزل: “إنها تتحدَّث”.

 “لكن أبي سوف يصل إلى المنزل عمَّا قريب!”

“سأعود قبل ذلك. ماذا دهاك حتى أصبحت على أشدِّك من الخوف طوال الوقت؟”

 كان بالفعل في المنزل والتفت الآن، يستند على عتبة النَّافذة، ليقسم بفارغ الصَّبر: “سأعود في غضون خمس دقائق”.

راقبه جون بحنق عندما فتح الباب بحذر واختفى. خلال لحظة رآه على الرصيف مع أصدقائه. لم يجرؤ على إخبار والدته أن روي غادر سلَّم النَّجاة لأنه وعد بالفعل ألا يفعل. بدأ يصيح: تذكَّر، قلت خمس دقائق! لكن واحد من أصدقاء روي كان ينظر عالياً نحو سلَّم النجاة. نظر جون نحو كتابه المدرسي: وانهمك ثانية في موضوع القاطرة.

عندما رفع بصره ثانية لم يعرف كم مضى من الوقت، لكن الآن كان هناك زمرة تتشاجر على كومة الحجارة. تقاتل عشرات الأولاد في الشَّمس اللاذعة: يتسلَّقون الصُّخور بجهد ويتقاتلون بالأيدي، أحذية بالية تنزلق على الصَّخرة الزلقة، يملؤون الهواء الصَّافي باللعنات والصَّرخات المتهللة. ملأوا الهواء أيضاً بالأسلحة الطائرة: الحجارة، العصي، علب الصَّفيح، القمامة، أي شيء يمكن أن يلتقط ويرمى. راقب جون بنوع من الدَّهشة الذَّاهلة-إلى أن تذكَّر أن روي كان لا يزال في الأسفل، وأنه كان واحداً من الأولاد على الكومة.

ثم دهمه الذُّعر، لم يتمكن من رؤية أخيه بين الأجسام في الشَّمس، ووقف يتَّكئ على سياج سلم النجاة. ثم ظهر روي من الجانب الآخر للصخرة، رأى جون أن قميصه كان ممزقاً، كان يضحك. تقدَّم إلى أن وقف عند أعلى قمَّة كومة الحجارة.

ثم طار شيء ما في الهواء، علبة صفيح فارغة، وضربته على جبهته، فوق العين تماماً. في الحال سال الدَّم على جانب من وجه روي، فسقط وتدحرج على وجهه على الصُّخور. ثم للحظة لم يكن هناك حركة على الإطلاق ولا صوت، حطت الشَّمس محتجزة على الشَّارع والرصيف والأولاد المحتجزين. ثم صرخ أحدهم أو صاح، بدأ الأولاد يهربون على الشَّارع نحو الجسر. بدأ الجسم على الأرض يصرخ وقد التقط أنفاسه وتحسس دمه. صاح جون: “ماما! ماما!” وركض إلى الدَّاخل.

“لا تقلق، لا تقلق”، لهثت الأخت مكندلس عندما هرعوا على الدَّرج المتأرجح الضَّيق المعتم، “لا تقلق. ما من صبي إلا ويصاب بين الفينة والأخرى. يا رب!” أسرعوا في الشَّمس. كان رجل قد جاء بروي والآن سار ببطء نحوهم. جلس ولد أو اثنان بصمت على شرفتهما، عند طرفي الشَّارع كان هناك جمع من الصِّبية يراقبون. قال الرجل: “لم يتأذَّ كثيراً، ما كان ليحدث هذا النَّوع من الضَّجة لو كان مصاباً بسوء حقاً”.

متهدِّجة، مدَّت اليزابيت يديها لتأخذ الولد، لكن الأخت مكَّندلس، أضخم جثةً منها وأهدأ، أخذته من الرجل ورمته على كتفها، ربما كما تعاملت سابقاً مع كيس من القطن. قالت للرجل: “بارك الله فيك، بارك الله فيك يا بني”. كان روي لا يزال يصرخ. وقفت اليزابيت خلف الأخت مكَّندلس لتتطلع نحو وجهه الدامي.

ظلَّ الرجل يقول: “إنه مجرَّد جرح بسيط، مجرَّد خدش سطحي، هذا كلُّ شيء”. كانوا يتقدَّمون عبر الرصيف نحو المنزل. نظر جون دون خوف الآن من الأولاد المحدقين نحو الزاوية ليرى إذا كان والده في مرمى النظر.

في الأعلى، هدَّأوا بكاء روي. غسلوا الدَّم ليجدوا النُّدبة المسنَّنة السَّطحية فوق الحاجب الأيسر تماماً. تمتمت اليزابيت: “يا رب ارحم، بوصة أخرى وكانت الإصابة في عينه” ونظرت بقلق نحو السَّاعة. قالت الأخت مكندلس المنشغلة بالضَّمادات واليود: “هذا ليس صحيحاً”.

سألت والدته أخيراً: “متى نزل إلى تحت؟”.

جلست الأخت مكَّندلس الآن تروِّح لنفسها في الكرسي المريح، عند رأس الأريكة التي يستلقي عليها روي مكبَّلاً وصامتاً. توقفت للحظة تنظر بحدَّة نحو جون. وقف جون قرب النافذة يمسك بإعلان الصَّحيفة والرسم الذي أنهاه.

قال: “كنَّا جالسين على سلَّم النَّجاة، نادى عليه عدد من الأولاد الذين يعرفهم “.

“متى؟”

“قال إنه سيعود في غضون خمس دقائق”.

“لماذا لم تخبرني بأنه نزل؟”

نظر إلى يديه تشبكان دفتره ولم يجب.

قالت الأخت مكَّندلس: “يا ولد، هل تسمع والدتك تتحدث إليك؟”

نظر إلى أمه وردَّد:

“قال إنه سوف يعود خلال خمس دقائق”.

قالت الأخت مكَّندلس بازدراء: “قال إنه سيعود خلال خمس دقائق، لا تنظر إليَّ كما لو أن ذلك ليس جواباً صحيحاً. أنت رجل المنزل، يفترض بك الاعتناء بإخوتك وأخواتك الصِّغار-لا يفترض بك أن تدعهم يفرون ويعودون نصف مقتولين. لكني أتوقع”، أضافت وهي تنهض عن الكرسي، مسقطة المروحة المصنوعة من الورق المقوَّى، “والدك سوف يحملك على قول الحقيقة. والدتك متساهلة جداً معك”.

لم ينظر إليها بل نحو المروحة التي حطَّت على المقعد المنخفض الأحمر القاني حيث كانت تجلس. أعلنت المروحة عن مرهم عطري للشعر مرسوم عليها امرأة سمراء ورضيعها، لكليهما شعر لماع وهما يبتسمان بسعادة لبعضهما البعض.

قالت الأخت مكندلس: “عزيزتي، يجب عليَّ أن أنطلق. ربما أمرُّ لاحقاً الليلة. لا أظن أنك ستذهبين إلى تاري سرفيس الليلة؟”

تاري سرفيس هو لقاء الصَّلاة الذي يعقد كل ليلة سبت في الكنيسة للشد من أزر المؤمنين وتحضير الكنيسة للقادم من الروح القدس يوم الأحد.

قالت اليزابيت: “لا أظن ذلك”. نهضت وتبادلت مع الأخت مكَّندلس القبل على الخدود. “لكن احرصي على أن تذكريني في صلواتك”.

” سوف أفعل ذلك قطعاً”. توقَّفت ويدها على قبضة الباب ونظرت نحو روي وضحكت قائلة: “مسكين الرجل الصَّغير، أظن أنه سوف يكون راضياً بالجلوس على سلم النجاة الآن”.

ضحكت اليزابيت معها. “من المؤكد أنه لابد أن يكون درساً له” ثم سألت بعصبية وهي لا تزال تبتسم، “تظنين أنه سوف يحتفظ بتلك الندبة، أليس كذلك؟”

قالت الأخت مكَّندلس: “يا رب، لا، لا شيء سوى خدش. يا أخت جريمز أنت أسوأ من طفل. عدة أسابيع أخر ولن تكوني قادرة على رؤية ندبة. لا، اذهبي وتابعي عملك المنزلي يا عزيزتي، واشكري الرب أن الأسوأ لم يحدث “. فتحت الباب فسمعوا صوت وقع أقدام على الدَّرج. قالت الأخت مكندلس برباطة جأش: “أتوقع أن هذا هو الكاهن، أراهن أنه سوف يثير شغباً”.

قالت اليزابيت: “ربما هي فلورنس. تأتي أحياناً إلى هنا في مثل هذا الوقت”. وقفتا في المدخل تحدقان بينما وصلت الخطوات إلى بسطة السُّلم في الأسفل وبدأت مجدداً تصعد إلى طابقهم. قالت اليزابيت حينئذ: “لا، تلك ليست مشيتها. هذا غابرييل”.

قالت الأخت مكَّندلس: “حسناً، أنا سوف أمضي وأمهد له سماع ما حدث” ضغطت على يد اليزابيت وهي تتحدث وحدَّقت نحو الصَّالة تاركة الباب خلفها موارباً قليلاً. التفتت اليزابيت ببطء عائدة إلى الغرفة. لم يفتح روي عينيه أو يتحرك، لكنها عرفت أنه لم يكن نائماً، تمنَّى أن يؤجل حتى آخر لحظة ممكنة أي اتصال مع والده. وضع جون صحيفته وكتابه على الطاولة ووقف ينحني على الطاولة، يحدق فيها.

قال: “لم يكن خطئي، لم أستطع منعه من النزول إلى الأسفل”.

قالت: “لا، ليس هناك ما يستدعي القلق. أخبر والدك الحقيقة وحسب”.

نظر مباشرة نحوها والتفتت إلى النافذة تحدِّق نحو الشَّارع. ماذا كانت تقول الأخت مكندلس؟ ثم سمعت من غرفة نومها نواح دليلة الخفيف والتفتت مقطِّبة تنظر نحو غرفة النَّوم ونحو الباب الذي لا يزال مفتوحاً. عرفت أن جون كان يراقبها. واصلت دليلة النَّحيب، فكَّرت بغضب الآن: تلك الفتاة أصبحت كبيرة جداً على ذلك، لكنها خشيت من أن توقظ الطفلة شقيقها بول وأسرعت إلى غرفة النَّوم. حاولت أن تهدئ دليلة لتعود إلى النَّوم. ثم سمعت الباب الأمامي يفتح ويغلق-بصوت مرتفع جداً رفعت دليلة صوتها، وحملت اليزابيت الطفلة مطلقة تنهيدة تنم عن الغيظ، طفلتها وطفلة غابرييل، أطفالها وأطفال غابرييل، روي، دليلة، بول، كان جون فقط بلا اسم وغريباً، دليل حي ومبرم على أيام والدته في الرذيلة.

سأل غابرييل: “ما الذي حدث؟”. وقف ضخماً في زاوية الغرفة يتدلى صندوق الغداء الأسود من يده ويحدِّق نحو الأريكة التي يستلقي عليها روي. وقف جون أمامه تماماً، بدا لها منظراً مدهشاً تحته تماماً، تحت قبضته، فردة حذائه الثقيلة. حدَّق الطفل بالرجل بافتتان ورعب-عندما رأت فتاة أرانب تقف مشلولة تماماً أمام كلب ينبح. أسرع غابرييل إلى الأريكة يشعر بثقل دليلة بين ذراعيه مثل ثقل ترس ووقف عند روي قائلاً:

“لا شيء لتقلق بشأنه، غابرييل. تسلل هذا الصبي إلى الأسفل بينما كنت أدير ظهري وجرح نفسه قليلاً. هو بخير الآن”.

فتح روي عينيه، كما لو مؤكداً الآن ونظر بهيبة نحو والده. رمى غابرييل صندوق غداءه مصدراً قعقعة وركع إلى جانب الأريكة.

“كيف تشعر يا بني؟ أخبر والدك بما حدث؟”

فتح روي فمه ليتحدَّث ثم عاد إلى سابق حاله من الذعر وبدأ يبكي. أمسك والده بكتفه.

“أنت لا تريد أن تبكي. أنت رجل والدك الصَّغير. أخبر والدك بما حدث”.

قالت اليزابيت: “نزل إلى الأسفل حيث لم يكن لديه ما يفعله هناك وتشاجر مع أولاد أشرار يلعبون على كومة الحجر. هذا ما حدث وإنها لرحمة أنه لم يحدث ما هو أسوأ”.

تطلَّع نحوها: “ألا يمكنك أن تدعي هذا الولد يجيبني بنفسه؟”

متجاهلة هذا تابعت بلطف أكبر: “جرح جبهته، لكن لا شيء يثير القلق”.

“ألن تتصلي بطبيب؟ كيف تعرفين أن لا شيء يستدعي القلق؟”

“هل حصلت على المال ليرمى على الأطباء؟ لا، لن أتصل بأي طبيب. نظري سليم ويمكنني أن أميز فيما إذا أكان مصاباً إصابة شديدة أو لا. لقد خاف أكثر من أي شيء آخر وينبغي عليك أن تصلي لله أن يلقنه درساً”.

قال: “لديك الكثير لتقوليه الآن، لكن سيكون لدي ما أقوله في غضون دقيقة. سأرغب بمعرفة متى حدث كل هذا، ماذا كنت تفعلين بعينيك حينها”. عاد ليلتفت نحو روي الذي تمدد ينتحب بهدوء عيناه مفتوحتان باتساع وجسده متصلب: والآن عند ملمس والده تذكر الصَّخرة العالية الشَّاهقة المنزلقة تحت قدميه، الشَّمس، توهج الشَّمس، اندفاعه في الظلمة ودمه المالح، ومرتداً بدأ بالصراخ عندما مسَّ والده جبهته.

دندن والده وهو يهتز: “اهدأ، اهدأ، اهدأ. لا تبكِ. والدك لن يؤذيك، هو يريد فقط أن يرى هذه الضَّمادة، أن يرى ما فعلوه بهذا الرجل الصَّغير”. لكن روي واصل الصُّراخ وما كان ليهدأ وغابرييل لم يجرؤ على أن يرفع الضَّمادة خوفاً من أذيته أكثر. ونظر إلى اليزابيت بحنق: “ألا يمكن أن تضعي تلك الطفلة وتساعديني مع هذا الولد؟ جون، خذ أختك الصغيرة من أمك-لا يبدو على أي منكما أن لديه حس جيد “.

أخذ جون دليلة وجلس معها في الكرسي المريح. مالت أمه على روي، وضبطته، بينما رفع والده بعناية-لكن مع ذلك صرخ روي -الضِّمادة وحدق بالجرح. بدأ نشيج روي يخفت. أعاد غابرييل تعديل الضمادة. قالت اليزابيت أخيراً: “كما ترى، هو ليس على وشك أن يموت “.

“من المؤكد أنه ليس خطؤك كونه ليس ميتاً”. هو واليزابيت تأملا بعضهما للحظة في صمت. “كان يمكن أن يفقد عينه. بالتأكيد، ليست عيناه واسعتين مثل عينيك، لذا افترض أنك لا تظنين بأن هذا يهم كثيراً”. عند هذا جمد وجهها، ابتسم وقال: “يا رب ارحم، تظنين أنت ستتعلمين أن تفعلي الصواب؟ أين كنت عندما حدث كل هذا؟ من سمح له بالنزول؟”

“لم يسمح له أحد بالنزول إلى الأسفل، لقد ذهب وحسب. لديه رأس مثل والده تماماً، عليه أن يتحطم قبل أن يذعن. كنت في المطبخ”.

“أين كان جوني؟”

“كان هنا؟”

“أين؟”

“كان على سلَّم النجاة”.

“ألم يعلم أن روي كان في الأسفل؟”

“أظنُّ ذلك”.

“ماذا تعني بأنك تظنين ذلك؟ هو لم يرث عينيك الواسعتين عبثاً، صحيح؟” تطلَّع نحو جون.

“يا ولد، أنت ترى أخاك يذهب إلى الأسفل؟”

“غابرييل، لا معنى لمحاولة إلقاء اللوم على جوني. أنت تعلم تماماً أن هناك مشكلة في دفع روي لأن يحسن التصرف، هو لن يصغي إلى أخيه. هو لا يصغي إليَّ إلا بالكاد”.

“كيف حدث أنك لم تخبر والدتك أن روي كان في الأسفل؟”

لم يقل جون شيئاً، محدقاً نحو الغطاء الذي غطى دليلة.

“يا ولد، هل تسمعني؟ تريدني أن أجلدك؟”

قالت: “لا، لن تفعل، لن تجلد هذا الولد بالسوط، ليس اليوم، ما من أحد يلام على استلقاء روي هناك الآن سواك-أنت لأنك أفسدته فهو يظن أنه يمكن أن يفعل أي شيء وينجو بفعلته. أنا هنا لأقول لك إنها ليست طريقة لتنشئة أي طفل. أنت لا تصلي للرب كي يساعدك على أن تتصرف بشكل أفضل مما كنت تفعل، أنت ستعيش لتذرف دموعاً مريرة لأن الله لم يأخذ روحه اليوم”. وكانت ترتجف.

تقدَّمت غير مبصرة من جون وأخذت دليلة من ذراعيه. عادت لتنظر إلى غابرييل الذي كان قد نهض ووقف قرب الأريكة يحدق نحوها. ووجدت في وجهه ليس الغضب فقط الذي ما كان ليثير استغرابها، لكن الكره عميقاً جداً ليصبح لا يطاق في افتقاره للشخصية. كانت عيناه زاخرتين لا تتحركان، تغشاهما الضغينة-شعرت بتوقه ليشهد هلاكها مثل جذب الأرض عند قدميها. ثانية حركت الطفلة في ذراعيها كما لو كان استرضاء. وعند هذا تغيرت عيناه، نظر إلى اليزابيت أم أولاده، الزوجة التي منحها له الرب. ثم غامت عيناها، تحركت لتغادر الغرفة فعلقت قدماها بصندوق الغداء الموضوع على الأرض.

قالت: “جون، احمل صندوق غداء والدك كما ينبغي لولد صالح أن يفعل”.

 سمعت من خلفها حركته الزاحفة عندما غادر الكرسي المريح، حفيف وخشخشة صندوق الغداء عندما رفعه، حانياً رأسه الدَّاكن قرب مقدِّمة فردة حذاء والده الثقيل.

Read Full Post »

13517098

على مسافة خطوة منهم

إنها ساعة غدائي، لذا أذهب

في نزهة بين سيارات الأجرة

الملونة، المهمهِمة. أولاً، على الرَّصيف

حيث يغذِّي العمَّال جذوعهم

القذرة اللماعة بالشَّطائر

والكوكا كولا، معتمرين خوذاً

صفراء. لحمايتهم من القرميد

المتساقط، أغلب الظن. ثم نحو

الجادَّة حيث تتقلب تنانير

فوق كعوب الأحذية العالية وتهبُّ فوق

المشابك الحديدية. الشَّمس لاذعة، لكن

سيارات الأجرة تثير الهواء. أتطلع

نحو صفقات لبيع ساعات اليد. هناك

قطط تلعب في النِّشارة.

نحو التايمز سكوير، حيث تنفث

اللافتة الدخان فوق رأسي، ومن أعلى

ينسكب الشَّلال برفق.

زنجي يقف في عتبة وفي يده

مسواك، يهتز بخمول.

تطقطق شقراء من فتيات الكورس:

يبتسم ويفرك ذقنه. كل شيء

يزمِّر فجأة: إنها السَّاعة 12:40 من يوم

خميس.

إن ضوء النيون في وضح النهار

لمتعة عظيمة، كما قد يكتب إدوين دينبي

كما لو أنها مصابيح في وضح النهار.

أتوقَّف عند ركن جولييت لشراء شطيرة بالجبن

جوليتا ماسينا، زوجة

فيدريكو فيليني، إنها ممثلة جميلة

ومخفوق الحليب بالشوكولا. سيدة

ترتدي سترة من فراء ثعلب في مثل هذا اليوم تضع كلبها البودل

في سيارة أجرة.

يوجد في الشَّارع اليوم عدد

من البويرتوريكيين، ما يمنحه

جمالاً ودفئاً. مات بوني

أولاً، ثم جون لاتوش،

ثم جاكسون بولوك. لكن أوَ تزخر الأرض بهم مثلما كانت الحياة؟

واحد أكل وواحد يسير،

ماراً بمجلات صور العراة

وملصقات إعلانية لمصارعة الثيران و

مستودع تخزين مانهاتن،

الذي سوف يهدمونه قريباً.

لطالما فكرت أن معرضاً

للفن المعاصر أقيم هناك.

كأس من عصير البابايا

وأعود إلى العمل. قلبي في

جيبي، مجموعة قصائد كتبها بيير ريفيردي.

Read Full Post »

قصيدة/ موريل روكايزر

عشت في القرن الأول من الحروب العالمية.

كدت أفقد عقلي في أغلب الصباحات،

تأتي الجرائد بقصصها الفارغة،

تتدفق الأخبار بشتى الوسائل

تقاطعها محاولات لبيع السلع لمجهولين.

أتصل بأصدقائي بوسائل أخرى،

فألقاهم على درجات من الغضب لأسباب مشابهة.

على مهلٍ أمسك بقلم وورقة،

أكتب قصائدي للمجهولين ولمن لم يولدوا بعد.

يوما ما سأذكِّر هؤلاء الرجال والنساء،

تشجعوا، ضعوا الإشارات عبر المسافات الشاسعة،

باعتبار طريقة العيش المزرية  لفئاتٍ قد لا تخطر في بال.

حالما أظلمت الأضواء، حالما سطعت أضواء الليل،

سنحاول تخيلهم، نحاول ايجاد بعضنا البعض،

لنشيّد السلام، نصنع الحب، لنتصالح

نسهر مع النائمين، كلنا سوية،

سوية سنحاول بكل ما أوتينا،

لنبلغ حدود أنفسنا، لنبلغ أبعد من أنفسنا

لنمضِ بالوسائل، لنستيقظ

عشت في القرن الأول لهذه الحروب.

 

Read Full Post »

جين تومر

ولد جين تومر  في عام 1894  في واشنطن العاصمة، ابن لمزارع جيورجي. بالرغم من أنه عاش بين البيض خلال فترات عديدة من حياته، إلا أنه ترعرع في مجتمع يغلب فيه السود ودرس في ثانوية للسود. في عام 1914 بدأ دراسته الجامعية في جامعة ويسكونسن لكنه تحول إلى جامعة مدينة نيويورك ودرس فيها حتى عام 1917.

أمضى تومر السنوات الأربعة التالية في الكتابة ونشر القصائد والنثر في Broom ، The Liberator, The Little Review وغيرها. ونشط مشاركاً في المجتمع الأدبي وكان معروفا مع أبرز الشخصيات مثل الناقد كينيث بروك والمصور الفريد ستيجليتز والشاعر هارت كرين.

في عام 1921، اشتغل تومر في التعليم في جورجيا وبقي هناك أربعة أشهر، الرحلة قادته نحو جذوره الجنوبية. وهذه التجربة ألهمته كتابه (Cane)، كتاب قصيدة النثر الذي يصف فيه  سكان جورجيا وطبيعتها.

في بداية العشرينيات، أصبح تومر مهتما باليونيتيزم، ديانة أوجدها الاميركي جورج ايفانوفيتش جورجييف. المذهب يعلم الوحدة، التجاوز والتفوق الذاتي عبر اليوجا: كل ذلك دعا تومر، ذو البشرة السوداء المشغول البال بالتأسيس للهوية في مجتمع الاختلافات العرقية القاسية. بدأ يعظ بتعاليم جورجييف في هارلم ولاحقاً انتقل إلى وسط المدينة في مجتمع البيض. من هناك انتقل إلى شيكاجو ليفتتح فرعا جديدا للمريدين.

تزوج تومر مرتين من زوجات كن بيضاوات البشرة، وانتقد من قبل مجتمع السود لتركه هارلم ولأنه رفض جذوره ليحيا حياة البيض، بأيه حال، هو رأى نفسه كشخص يعيش فوق حدود العرق. مركزه الخاص بالتأمل كان توقه للوحدة العرقية، وهذا ما يتضح من قصيدته الطويلة “Blue Meridian.”. توفي عام 1967.

رجل ما

رجل ما تمنى أن يكون أميراً

على هذه الأرض، هو أيضا أراد أن يكون

قديساً وسيداً على العالم الراهن

الضمير لا يمكن أن يكون موجوداً في الأول

الثاني لا يمكنه الوجود بدون الضمير

ولذلك من لديه ما يكفي من الضمير

ليكون مكدراً لكن ليس كافياً ليكون

خاضعا لا يستطيع رفض الأول

ولا أن يتبع الآخر

وجه من جورجيا

شعر كستنائي مضفور

معقود كحبل المشنقة

عيون- حُزم

شفاه- خوف قديم، أو أول البثور الحمراء

نفس- عطر كين المحبب الأخير

وجسدها الناحل أبيض كرماد

 اللحم الأسود بعد الاحتراق

أغنية مسائية

قمرٌ بدر يشرف على مياه قلبي،

بحيرات وقمر ونيران،

كلوين متعبة،

تعض على شفتيها،

عهود الوسن تهجر الشاطئ لتسحر القمر،

ونجمة المساء بقيت بأعجوبة،

كلوين تنام،

وسوف أنام بعد قليل،

كلوين، تتقلب مثل مياه ناعسة عندما تبدأ موجات القمر،

مشعة، تومض بلمعان

كلوين تحلم،

شفاهها تضغط على قلبي.

محادثة

حارس الأرواح الإفريقي،

أثمله الشراب،

مولماً على الكاسافا* الغريبة،

مطيعاً للكلمات الجديدة والواهية

من الوجه الأبيض والساخر لله

يضحك، يبكي

آمين،

صيحات المجد لله.

*الكاسافا نوع من النباتات التي تصلح جذورها للأكل.

 

 

Read Full Post »